Friday 18 July 2008

عن نجمتي الذهبية

أجلس (وحدي) علي بعد يكفي ان أنفصل نسبيا عن من حولي، لاحظت مؤخرا انني استمتع بوجودي معي لا مع الأخرين. عادة أضفتها الي قائمة عاداتي الجديدة. أذهب الي المقهي وأحتسي فناجين قهوتي. أراقب من حولي... قررت ان أراقب الناس، أن أعرف كيف يتصرف "الأخرون"؛ فأنا الكائن الغريب، ومن الواضح انني في هذه المرحلة الهامة يتعين علي المراقبة عن كثب. أعجبتني الهواية وأحترفت المراقبة...صرت أقيم تصرفاتهم وأصدر احكاما علي اغلبهم. قد تأخذني الشفقة بقليل منهم، أو أبدي اعجاب سري بأحد فأصفق من داخلي و اقرر أن أهديه نجمة...نجمة ذهبية كالتي طالما زينت كراساتي الصغيرة.


في المدرسة كنت افرح بالنجوم الذهبية وأعود الي البيت حاملة كراساتي المزينة بها لتتصدر طاولة الغداء. أما النجوم الفضية فكانت تفرحني ايضا، جميلة و لامعة كالذهبية لكنها اقل اشراقا فلا تحظي بمراسم الأستقبال الملكي علي طاولة الغداء. حصلت في أحد الأيام علي نجمة خضراء أو برتقالية -لا أذكر اللون بالتحديد-... فكان من أسوء ايام حياتي . تحججت مدرستي بنفاذ النجمات الذهبية و انها سوف تبدلها لي في صباح الغد...لم أقتنع. لونها والدي بقلم فلومستر فلم تتغير النتيجة بل زاد النجمة بشاعة. قالت لي امي ان النجمة نجمة مهما كان لونها....فاستمتعي بدلالاتها بدلا من استهجانها. أتحبين ان يعايرك احد بلون بشرتك؟؟


أمامي الأن قدح كبير من "اللاتيه"، قدح ذو بياض كالح ، قدح بأذنين يشبه القفه....قدح قبيح. ...وللتأكيد قدح قبيح جدا وغير مريح بالمرة. أخيرا استطعت ان احدد، ان ابتعد عن المطلق في وصفي لشئ. أكاد أجن من الفرح لقدرتي علي التحديد و الوصف، و الأغرب ان أفصح عن رأيي الصادق المؤلم بصراحة وسعادة... في العادي قد أشعر بعدم الراحة من منظره أو أفرغ ما بداخله بجوفي وأقرر عدم شرب قهوتي المفضلة في هذا المكان دون ان أحدد السبب. ونظرا لاني قررت التخلص مني..ها انا ذا أنعته بالقبح. رأيت قطرات الماء تنسدل علي جانبيه....أهنته "أي نعم" ...قربته الي فمي متمتة بغير اقتناع "أنا خايفة علي مصلحتك".

وجأت أول رشفه مرررررررررررة....لا بل مالحة. أفضي الملعون دموعه بقهوتي واستبدلها بسكري البني ليكحل به عيونه التي أرهقها البكاء ليعاقبني علي أول تقدم ملحوظ في علاقتي بنفسي..والأخرين. وضعته أمامي مكتفيه بالسرحان في الرغوة البيضاء الكثيفة وبقايا قلب من القهوة علي وشك التلاشي بحميمية في البياض. البياض الذي خلته قشدة وانا في الثامنة أحتسي الكابوتشينو لأول مرة مع أمي في الأكسليسيور....لحظة تمنت أمي أن تنشق الأرض وتبتلعها. رفضت شرب ما بداخل الفنجان الصغير، فحاولت اقناعي انه لذيذ وأن الطبقة البيضاء مجرد رغوة لا قشدة ولا يحزنون...بدأت تضغط علي فرردت ببكاء وصراخ مخيف. دفعت الحساب وانتفضت واقفة أمرة ان اتبعها خارج المحل...في التاكسي نظرت الي معاتبة بكلام فهمته لاحقا...إن لم تثقي بأمك فبمن إذاً تثقي!!


* "من بين مئات الرجال لا تخطئ المرأة رجلا أحبته يوما، تعرف انحناءة ظهره، و العصب الذي يتوتر مشدودا في مؤخرة رقبته حين يميل رأسه، تميز لون شعره حتي لو مسح الزمان لونه"....رأيت وجهها وعرفته من ظهره. "ليس اليوم...ليس اليوم". لست في حاجة لرؤيته اليوم فمابالك بصحبة "إحداهن"!! يجلس في وضعية الأمراء كعادته مع الجديدات...يقص القصص ويتفاخر، يقترب بثبات وحنان ويبتعد في الوقت المحدد...لتقترب هي باندفاع وشحنة مضاعفة من العواطف...يقابلها بشغف مشوب بحذر. أعرف اللعبة، لعبتها معه. أقسم اني أيقنت حينئذ انها فقط لعبة وعلينا الألتزام بأصولها.


أحببته، صارحته، صادقني...ليس إلا. قرر ألا يدعني ارحل بعيدا عن مملكته وقبلت. يذكرني عندما تكشر له الدنيا عن أنيابها..و يتمكن البرد من ثنايا عظامه، فيبحث عني. يستدعيني فأنفخ فيه ذرة من دفئ تكفيه. حكيت له مرة عن نجوم كراساتي الملونة، وأزمة الثقة، تمنيت في هذه اللحظة ان يخرج من جعبته نجمة ذهبية و يضعها علي جبيني.




*من مجموعة الشيخوخة و قصص أخري - د. لطيفة الزيات

Saturday 12 July 2008

عن أية

كعادتها في الحادية عشرة صباحاً من كل يوم، تدفع باب المكتب بالعكس فيطقطق بغلاسة...أرفع عيني إليها مؤنبة فتضحك قائلة "ياخراشي..بانسى) يا أستاذة". أضحك وأعطيها ورقة بطلباتي اليومية التي تكاد تكون قد حفظتها عن ظهر قلب. تسألني علي سبيل العادة لا الاهتمام "عايزة حاجة تانية!!"

ألمح حذاءا جديدا تعمدت رفع بنطلونها عنه...فأجبتها شاكرة وغمزتُ قائلة "مبروك عالأرض"
بسعادة وبسرعة ردت "حلوة يا أستاذة!!" دي جزمة العيد..بس أنا عيدت بدري". جميلة يا آية مبروك عليكي...كل سنة و انتي طيبة."

انطلقت مسرعة خارج المكتب وبالطبع لم تفوت فرصة فتح الباب في الاتجاه المعاكس لتستكمل سيمفونية العكننة التي
بدأتها منذ دقائق. ذكّرتني آية بعيد القيامة. علي ورقة صفراء لاصقة أضفت مهمة جديدة إلي مايجب عليّ إنجازه في عطلة نهاية الأسبوع:
5- إعداد قائمة معايدات عيد القيامة ...أبدأ بكتابة الأسماء ثم أنظر في اتجاه الباب محاولة استرجاع صورة آية...ترتدي للعمل –عادةً- حذاء رياضي أسود، بنطلون كحلي غامق، قميص أبيض طويل بخطوط طولية بنفس لون البنطلون؛ في الغالب أكبر قياسين ثلاثة من مقاسها الحقيقي... وإيشارب أصفر..."أيوة أصفر"!!

رأيتها أكثر من مرة تغادر العمل مرتدية جينز وشئ طويل بين الفستان والتي شيرت و قد غطت وجهها الأسمر ببودرة بيضاء ولونت دائرتين مكتملتين علي خديها باللون الأحمر، تفوح منها رائحة عطر رخيص نفاذ...أما الإيشارب الأصفر فظهر أيضا في الصورة ولكن بربطة مختلفة. أعجبت وقتها بثقتها في نفسها و تمنيت لو استطعت أن أمنعها من النزول إلي الشارع متقمصة شخصية خيمة السيرك الملونة.